قصة قصيرة: كابوسُ حربالكاتبة: مِنَّة اللّٰه إيهاب
تصميم: مريم جبر
مراجعة لغوية: رحمة ناصر
هل تعرَّفتَ مسبقًا على حبيسِ صفحاتي المميز؟
طائري الجميل الذي أعيَتْه الوحدة المُوْحِشة التي استوطنت عباراتي نَسَجتُ له بالخيالِ جناحَيْن من الأثير، ونقرتُ نقرةً على فؤاده العتيق وأطلقته حرًّا من على سفحِ صفحاتي سالبةِ الروح، ليحلقَ بحريةٍ ويقفز برشاقةٍ من غصنٍ لآخر، ثم لا يمهله جرحُه الغير ملتئم فرصةً ليحلق أبعد، فيكون مصيرُه هبوطًا حادًّا فوق إحدى ريحاناتي البنفسجية في بستاني الصغير.
لم أُوْلي ذلك الحدث البائس اهتمامًا، أو ربما لم تتح لي الفرصة أن أفعل؛ فلقد تعلقت عينايَ والتمعتا أمام صورةٍ بديعةٍ لأخي وهو يقترب نحوي بوجهٍ وضَّاء وقلبٍ سليم بعد أن أدَّي فريضةَ صلاةِ الجمعة، تفوحُ من عباءتِهِ البيضاءَ رائحةٌ عطرةٌ من مسكِ الريحان.
اقتربتُ أربتُ بخفةٍ على كتفِه، ثم لَوَّحت السلامةَ بيدي نحو أبي الذي انتظر لدقائقَ معدودةٍ في سيارته، يراقب وصولَ أخي بسلام إلَيّ، ثم يديرُ محركَ سيارته ويتجه بعيدًا، أعلمُ يقينًا أن وجهته تبعد كيلومترات معدودة عن منزلنا، كما يبعد هو سنينًا مديدةً عن حياتنا.
مشينا في دهليزٍ على طولِ ريحاناتي حتى وصلنا إلى المنزل، حيثُ أمي تُعِد الغداءَ بحب وتستقبلنا بابتسامةٍ مشرقة تزيدُ من جمالها أضعافَ الجَمال. نجلسُ على مائدةٍ متواضعةٍ يترأسها طبقٌ واسعٌ من الأرزِ المتبقي من حشوةِ ملفوفِ الخميس، طهته أمي بطريقةٍ مثاليةٍ اعتدنا تخصيصها للجُمُعة. وتأتي لاحقًا مكالمةُ الفيديو المميزة مع أختى القابعة قُربَ الضفة، تكافح لنَيْلِ شهادتها.
ثم ماذا بعد؟
ثم ظلامٌ دامسٌ تشُقُّهُ صرخاتٌ تمزقُ الروح، ودماءٌ تُنثَرُ على شاشةٍ سوداء، والهلعُ يهزُ الأرض، وأنا أتقلبُ بعنفٍ على السرير، ينهمرُ العرقُ على جبيني، حتى نهضتُ فزِعًا عندما شق صوتُ الرصاصِ كابوسي المريع. نهضتُ أستعيذُ وأمسحُ على وجهي بيدين مرتعشتين حتى هدأت أنفاسي واستعادت أطرافي قدرتها على التحكم مُدَّت يدي إلى صورةٍ مبروزةٍ ثبَّـتُّـها بروحي قبل خمسِ سنواتٍ على خزانةٍ عتيقةٍ اعتدتُ سابقًا رؤيتَها تتوسطُ المسافةَ الضيقة بين سريرِ أخي الراحلِ وسريري.
أتحسسُ برقةٍ وجوهَهم من على زجاجِ البروازِ الصغير، أتذكرُ وكأنه الأمس، ليلةٌ عائليةٌ مفعمةٌ بالضَحِكاتِ العالية، التقطنا أولَ وآخرَ سيلفي عائلي -فلم يتعلق فردٌ منا بعدساتِ الكاميرا عَداي- كما أتذكرُ بدقةٍ الليلةَ التي تليها مباشرةً، حينما استلقَيْنا سَوِّية -أنا وأمي وأخي الصغير- بعد أن أُجهِدنا في نقلِ حاجِيات سفرِ أختي إلى المحطة، وقتها انطلقَت صافراتُ الإنذارِ محدِثةً ضجيجًا في الأرجاء، آذاننا لا تلتقطُ إلا الهلعَ الذي يهُزُّ البلدة، ولا تلتقطُ أعيننا إلا النيران المشتعلة التي تلتهمُ كلَّ ما يحيطُ بالمنزل.
ما الذي قد حَل بالجميع؟
ماذا عن أختي قُرب الضفة؟
وماذا عن أبي؟
ماذا عن صديقِ عمري الذي أجَّلتُ معه حديثَنا في موضوعٍ قد بلغت أهميتُهُ ذُروَتَها كما أخبرني؟
ماذا عن ريحاناتي؟
يا إلهي لقد تغافلتُ تمامًا عن الكشفِ عن طائري الذي أطلقته بالأمسِ ثم سقطَ على الوريقات البنفسجية!
سَيْلٌ من الأسئلةِ الغيرِ مترابطة يجتاحُ عقلي في تلك اللحظاتِ المشؤومة، أقفُ شاردًا لا تسعفني روحي للاستجابةِ لأمي وهي تصرخُ اسمي، تدفعني بقوةٍ لا تكفي لإقناعِ جسدي أن يتحرك خارجَ المنزل.
لقد دمرَت الصورايخُ ريحاناتي الثمينة! لقد قُتِل طائري المسكين، ولماذا؟
لإن السلطات حكمت أنَّ الحربَ قائمةٌ حتى وإن لم نستنجد بهم، وأننا يجبُ أن نقاومَ حتى تُزهَقَ أرواحُنا وتُستنزَفَ ممتلكاتُنا.
ولكن هيهات أن أترك ذكرياتي ومذكراتي وأغادر بهذه البساطة!
لا تفارقُ أحلامي الليلية مشهدًا يُدمي الأنفس؛ حينما تركت يد أمي وهرعتُ نحو خزانتي، أُخرِج منها صندوقي الذي يبلُغُ من العمرِ قدرَ ما أبلغ، وأمي تصرخ بأخي أن يسرعَ بالفرار حالما تعثر عليّ لنلحقَ به، لكنه لا يستجيب لها وإنما يتشبثُ بذراعها وحنجرته تكاد تتمزق من علُوِّ شهقاتِه الباكية. تجذبني أمي من يدي بقسوة، تكاد توشك أن تفلحَ في الفرار بأطفالها ولكن مُسَلحًا يحملُ رصاصًا قاتلًا تسلل إلى المنزلِ حتى وجد طريقه إلينا، ولم أفِق إلا بعد أن شعرتُ بحملٍ ثقيلٍ على جسدي، وإذ بأمي وأخي مَكسيَّانِ بالدماء، يخبئانني قدرَ استطاعتهما عن أعينِ العدو، فأصبحتُ ناجيةَ العائلةِ المسكينةَ التي تيَتَّمت وتشردت بعد أن سلب منها العدو أمها وأخيها في غمضةِ عين، وبعد أن سلب منها العدو أباها وهو في طريقه إلى نجدتها، وبعد أن سلب منها العدو أختها قرب الضفة قبل أن تنال ما سافرت تكافحُ لأجله، وبعد أن سلب منها العدو كلَّ صديقٍ تركت بينها وبينه حوارًا لم يكتمل، وبعد أن سُلِبَت ريحاناتها بقسوةٍ وأمسى طائرُها رمادًا فوق أوراقها المتفحمة.
كان هذا ما خلَّفَته الحربُ في حكايتي وما أمضيتُ خمسَ سنين من عمري أصارعُ عقلي أن يتقبله وأصارع روحي أن تعود لسابقِ عهدها وتطوي صفحةً مُميتةً لمن يقرأها، وتبدأُ نقشًا جديدًا يبسمُ له من واراهم التراب.
مسحتُ دموعي وأرخَيْتُ الصورةَ بعنايةٍ إلى جواري ثم توجهتُ إلى دهليزِ المنزل، حيثُ يكسو الريحانُ جانبيهِ، وكان قد كبُرَ بطولٍ ممتاز وأطلقت وريقاتُه البنفسجيةُ عبقَها.
سقَيْتُ ريحاناتي وتركتُ طائري يعبثُ فوقها قدر ما يشاء ثم طهوتُ الأرزَ المتبقي من حشوةِ ملفوفِ الخميس، وتوجهتُ بعدها إلى لقاءٍ افتراضيٍّ بيني وبين أحبائي القابعين تحت التراب ودعوتُ اللّٰهَ أن يعجِّلَ لقائي بنورِ وجوههم.
مِـنــَّـةُ اللّٰـــهِ إيهاب|همج لطيف
تعليقات
إرسال تعليق