إسكريبت "قسوة غير مشروعه"
آية منصور
على أحد بوابات الجامعة
الأمن: الكارنيه يا أنسة لو سمحتِ.
رزان: تفضل ها هو.
الأمن: حسنًا يمكنك المرور.
دخلت رزان الجامعة، ألقت نظرة على ساعتها فوجدت الوقت لازال باكرًا على موعد المحاضرة، فقررت أن تنتظر في حديقة الجامعة، بعد لحظات وجدت كرسيًا فارغ، فاتجهت إليه مسرعة، وبعد لحظات انضمت إليها فتاة تُدعي أسيل، وشاركتها الكرسي، وبعد مرور قرابة خمس دقائق أتاهما صوت رجل الأمن.
رجل الأمن: من فضلكن اتركن هذا المكان، ولتذهب كل منكن إلى كليتها.
"بالطبع لم يعجب رزان هذا الكلام لأنها لم تجد هذا الكرسي الفارغ بسهولة"
رزان بغضب: لا يوجد مكان أخر للجلوس، لن أغادر حتى معود محاضرتي.
رجل الأمن بهدوء : هذه تعليمات الإدارة يا أنسة، من فضلك لا تسببي لي المتاعب.
برفق أمسكت أسيل ذراع رزان قائلة: لا تغضبي سنجد مكان أخر.
" بقلة حيلة ذهبت رزان معها واتجهتا لمكان أخر، وأثناء سيرهما معًا.. "
رزان: ما اسمك؟
أسيل: اسمي أسيل، في الفرقة الرابعة في كلية الهندسة، وأنتِ؟
رزان: أهلا بكِ، أنا رزان، في الفرقة الخامسة من كلية الهندسة أيضًا.
أسيل وهي تشير في اتجاه ما تحت ظل شجرة : هيا نجلس هناك لا مكان أخر.
رزان ببعض التهكم: أتمنى ألا يأتي رجل الأمن هذا ثانيةً ويُخبرنا بلزوم ترك هذا المكان أيضًا.
أسيل بضحك على طريقة حديث رزان: لا تقلقي إن شاء اللّٰه لن يأتي.
" جلست الفتاتان تحت ظل الشجرة، وتبادلتا الأحاديث الكثيرة في أشياء عديدة، وأثناء الحديث رن هاتف أسيل"
أسيل: لحظة من فضلك سأجيب على هاتفي، إنه زوجي.
رزان: بالطبع تفضلي.
أسيل وهي تتحدث في الهاتف: لا تقل لي أنك استيقظت لتوك!
زوج أسيل:.................
أسيل: حسنًا هيا أسرع تأخر الوقت كثيرًا، لديك عمل.
زوجل أسيل:..................
أسيل: لقد أعددت لك الفطور ستجده في غرفة الطعام، ولا تنس أن ترى والدتك قبل المغادرة.
زوج أسيل:..................
أسيل: لا حرمني الله منك، في رعاية اللّٰه.
"اغلقت أسيل الهاتف ونظرت لرزان عندما سألتها"
رزان بضحكة خفيفة: أخبريني أالزواج سعادة أم تعاسة كما أسمع من الجميع؟
أسيل ببتسامة: من قال أنَّ الزواج تعاسة فقد كذب عليكِ، أو أنه يواري فشله في علاقته الزوجية وراء هذا المصطلح "الزواج تعاسة".
رزان بنبرة إهتمام: أتزوجتي عن قصة حب بينك وبين زوجك؟
أسيل بانتباه : لا لم أكن أعرفه إطلاقًا، لكن عندما تمت خطبتنا وعرفته جيدًا أحببته كثيرًا.
أكملت أسيل بنرة يملؤها الحُب : لم أشعر بالسعادة الحقيقية إلا عندما تزوجت، لقد عوضني اللّٰه خيرًا عن أعوامي السابقة، لم أجد مَن يحنوا عليَّ ويحبني حقًا بعد والدي سوي مُهاب زوجي.
رزان باهتمام : هل والدتك توفت؟
أسيل بسخرية: لا هي على قيد الحياة، لكنها لا تُريدني.
رزان بصدمة: ماذا؟ ماذا تقصدين بـ (لا تريدني)؟
أسيل بسخرية : كما سمعتي؛ والدتي لا تريدني.
أكملت أسيل حديثها بسخرية أكبر : بعد ولادتي بقرابة شهرين حدث خلاف كبير بين أبي وأمي، وطلبت والدتي الطلاق من أبي وبعد إصرار منها طلقها والدي.
سكتت أسيل قليلًا ثم قالت بألم: أخبريني يا رزان مع مَن يجب أن أكون وعمري لم يتجاوز الشهرين؟
رزان بسرعة وجدية: بالطبع مع والدتك.
أسيل بنبرة مليئة بالسخرية: هذا ما ستفعله أي أم، لكن أمي لم تفعل.
رزان بصدمة كبيرة : ماذا تقصدين؟
أسيل بثبات ولا مبالاة : عندما حان وقت رحيل أمي من البيت، جهزت حقائبها وتأهبت للخروج، فأوقفها أبي قائلًا: خذي أسيل معكِ.
أجابته والدتي: لن أخد أحد معي سوي ولداي هذان (كانت تقصد أخوايا المتوسطان) وأكملت قائلة: أنا لا أريد هذه الفتاة، لا أحبها، إن أردت أبقها معك أو افعل ما شئت، وتركته ورحلت.
رزان وقد تجمعت الدموع في عينيها : كيف تفعل أم هذا! وماذا حدث؟
أخذت أسيل نفس عميق وكأنها تسترجع الذكريات وبنبرة حب مختلطة بألم: بعد رحيل أمي قضيت حياتي مع أبي كان ونعم الأب، كان يهتم بي كثيرًا، وكل ما أريده يحضره لي، أتذكر كل مرة أدخل فيها المطبخ وأجده يعد لنا الطعام بكل حُب ورضا، لم يكِّل أبدًا رغم أنَّ والدي لم يكن صغيرًا بالسن؛ لا فأنا لدي أخوان أخران متزوجان، كان أبي يطعمني، ويعلمني، ويعطيني النصائح الكثيرة حقًا لم أفتقد لوجود أم؛ فقد كان والدي يقوم بدورها على أكمل وجه... سكتت أسيل عن الكلام قليلًا وقد تغيرت تعابير وجهها وأكملت حديثها بحزن : عندما وصلت للصف الثاني الإعدادي، مرض أبي بشدة ولم يلبث الكثير إلا وقد توفاه اللّٰه، لقد كنت صغيره على هذا الحدث ولم أتخيل أبدًا أنني في يوم من الأيام لن أجد أبي معي في البيت.
رزان وقد أخذت الدموع مجراها وبصوت مكتوم : رحمه اللّٰه رحمةً واسعة وأسكنه فسيح جناته.
أجابت أسيل: آمين. ثم أكملت : أتذكر هذا اليوم جيدًا فقد جاءت أمي لتعزي إخوتي الكبار، وأثناء جلوسنا وسط حشد من المعزيين، جاء أخي الكبير وقال لها بصوت خفيض: خذي أسيل معكِ يا أمي، لقد مات أبي، لا يمكنها العيش وحدها....سكتت أسيل قليلًا ثم قالت بسخرية كبيرة: أتعلمين ماذا قالت أمي يا رزان؟ لقد قالت بصوت مرتفع وسط الحاضرين : أنا لن أخذ هذه الفتاة، خذها أنت او اتركها، افعل ما شئت، لكنني لن آخذها، أنا لا أعلم من تكون في الأصل.
علت صدمة كبيرة وجه رزان وتوقفت الدموع عن الجريان وقالت : أي قلب أمٍ هذا؟ ما هذه القسوة؟ لما تفعل كل هذا؟
تنفست أسيل ببطئ وقالت : واللّٰه لا أعلم.
رزان : ماذا حدث بعد هذا؟
أسيل بثبات : أشار لي أخي إلى منزله وقال لي اذهبي إلى هناك، قضيت مع أخي وزوجته وأبنائه الصغار حياتي منذ وفاة والدي وحتى قبل الآن بعامٍ ونصف.
رزان بحزن : أكنتِ مرتاحة؟
أسيل بجدية: بالطبع لا، لقد كانت هذه الفترة أسوء فترة قضيتها على الإطلاق، ولا أظن أنَّ هناك أسوء من ذلك.
رزان بألم : ماذا حدث إذًا؟
رزان بحزن: لم تعاملني زوجة أخي برفق، دائمًا كانت تنظر إليَّ على أنني حمل ثقيل، ويجب التخلص منه، رغم أنني كنت في بيتها كالخادمة تمامًا، فأنا مَن يعد الطعام، وينظف البيت، حتى أطفالها أنا مَن أطعمهم، وأبدل لهم الثياب، واتابع معهم الدراسة والواجبات المنزلية، عندما كُنا نختلف على شيء ما كانت تقول لي : أنتِ بلا فائدة، أنت حمل ثقيل علينا، أنا لا أحبك، طوال فترة تواجدك معنا أنا غير مرتاحة في بيتي، وكانت تتجه نحو خزانة الملابس وتلقي لي ثيابي في وجهي وتقول اذهبي لا نريدك.
عادت رزان للبكاء من جديد ولكن هذه المرة كانت تتعالى شهقاتها حزنًا على هذه الفتاة المسكينة، وما عانته في صغرها، في أيام طفولتها التي بدلًا من أن تمرح ولا تبالي بشيء، كان البلاء كله في قلبها، تحدثت رزان من بين دموعها بصعوبة : وأين كنتِ تذهبين؟
أسيل : كنت أعود لبيت أبي، ولكن عندما يأتي أخي ولا يجدني في بيته يسأل زوجته، فتخبره بما حدث بيننا من شجار وأنني تركت البيت، فيأتي إليَّ مسرعًا ويعود بي إلى بيته مرة أخرى وتتكرر الأحداث هذه دائمًا، أتعلمين شيء؟ عندما وصلت للمرحلة الثانوية كنت وسط زملائي معروفة باسم (أم العيال).
رزان بانتباه : لما هذا اللقب؟
أسيل بمرح وسخرية: لأن زوجة أخي لم تكن تسمح لي بالخروج إلا ومعي طفليها، وعندما كنت أرفض أخذ أحدهما معي كانت تمنعني من الخروج فكنت دائمًا مضطرة لأخذ أحدهما حتى أتمكن من الخروج.
رزان بضيق : وأين أخاك من كل هذا؟
أسيل : أخي كان يعود من العمل متأخرًا ويذهب باكرًا، فلم أرغب في جعله يحزن لأجلي، وأيضًا عندما أخبرته ذات مرة عمَّا تفعله زوجته معي لم يُحدث فارقًا، فقررت التحمل وفقط.
رزان بغضب : أين ذهبت الرحمة والحنان؟ لما هذه القسوة؟
أسيل بسخرية : حنان! ورحمة! لالا أنتِ لا تعرفين شيء، عندما تقدم لخطبتي أول شخص جعلوني أوافق رغم رفضي له، وهذا كله بسبب زوجة أخي؛ لأنها تُريد الخلاص مني في أسرع وقت ممكن، وبعد فترة انفصلت عنه بعد أن أخبرني أن الحال ضائق جدًا ويريد مال، وقال لي: أنه علىَّ أن أبيع ذهبي، وأرسل له المال، وبعدما فعلت ما طلب قال لي :(كل شيء قسمة ونصيب)، وعندما أخبرتهم بما حدث ألقوا اللوم كله علىََّ، بدلًا من أن يخبرني أحدهم أنني أستحق الأفضل.
رزان ببكاء: كيف تحملتِ هذه القسوة؟ وأخذت في البكاء...
أكملت أسيل حديثها: عندما تقدم زوجي لخطبتي وتمت الموافقة، شعرت بداخلي أنَّ هذا هو عوض اللّٰه لي، لقد كان نِعم الرجل، لم أشقَ بصحبته أبدا، لكن أكثر ما كان يؤلم في فترة الخطوبة هذه أن زوجة أخي لم ترحمني وظلت تقسوا علىَّ أكثر من ذي قبل، فتسببت لي بمشكلة وأخرجتني من بيتها.
رزان بصدمة: أين ذهبتي؟
أسيل ببرود : ذهبت لبيت أبي قضيت به قرابة سنة ظللت هناك وحدي في هذا البيت، أنتظر زوجة أخي تحضر لي الغداء كل يوم، لم يكن لي الحق في اختيار ما سأتناوله اليوم؛ وهذا بالطبع لأنني لا أمتلك المال.
رزان بذهول : أوافق أخاكي على مكوثك في بيت أبيك وحدك؟
أسيل ببرود أكبر : لقد أخبرني أنَّ هذا أفضل لي ولهم حتى نتجنب كثرة الخلافات
رزان تبكي وفقط، لم تستوعب حجم المعاناه وهذه القسوة وقالت بصوت مبحوح: وأين أخاكِ الأخر واخواك الاوسطان؟
أسيل بألم : أخي متزوج وهو خارج البلاد لا يأتي إلا قليل جدًا، واخواي الأوسطان مع أمي لا يعلمون عني شيء، أتعلمين شيء؟ لقد تم تجهيز كل شيء لزفافي ولم أختر شيء بنفسي، كنت جالسه في البيت وحدي وزوجة أخي هي من تختار لي ولا تخيرني في أشيائي، لم يكن أمامي سوي الرضا والصبر، لقد شعرت بأنني ثقيلة للغاية، وأكملت بهدوء : يوم زفافي لم تأتي أمي، هي لا تعلم أين تزوجت.
رزان تبكي بشده.
أسيل ببعض المرح: مَن مِنا عليه مواساة الأخر لا تبكي هكذا، وأكملت بابتسامة عذبة: اللّٰه لا يترك أحد، لقد ابتلاني وكان البلاء شديد، لكنني صبرت وعوض صبري هذا بزوجٍ يحنوا علىَّ، ويحبني كما لو أنه لا يملك شيء في هذا العالم سواي.
رزان بعدما استعادة بعض مِن هدوءها : عندما يرزقك اللّٰه بأطفال ستكونين أمًا رائعة بالتأكيد.
أسيل بفرح وحب : عندما أرزق بأطفال لن أهملهم أبدًا، سأبث لهم كل شعور كنت أفتقده، لن أدعهم يحتاجون لحب أحد، سأبذل كل ما بوسعي حتى يحيوا حياة هادئة، وآمنة، مليئة بالحنان والحُب.
رزان بحب: رزقكِ اللّٰه بالذرية الصالحة البارة، ويبارك لكِ بهم وبزوجكِ
أسيل بإمتنان :اللهم آمين.
نظرت رزان لساعة هاتفها وجدت أنه عليها الذهاب للمحاضرة، نظرت سريعًا لرفيقتها الجديدة قائلة: علىَّ الذهاب الأن، لكن لنتبادل أرقام هواتفنا حتى أظل على تواصل معكِ.
أسيل ببهجة وسعادة : أجل بالطبع.
بعدما تبادلتا أرقام هواتفهن، ودعت رزان رفيقتها وأتجهت للكلية، وهي مليئة بالمشاعر المختلطة من صدمة، وحزن، وألم، وفرح، وحب، وحمدت ربها على ما أنعم اللّٰه عليها بدفء عائلتها، وحب والدها، وحنان والدتها.
والآن لا أعلم إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يقسوا على أحد لا ذنب له بشيء، كيف يسمح أحد ما لنسفه أن يجعل أحدهم يقضي حياته يتساءل؛ ماذا أذنبت؟ ما هي تُهمتي التي أُعاقب عليها بأشد أنواع العقاب هكذا؟
أدركتُ تمامًا أنَّ الأشخاص كالأرزاق، يهبُنا اللّٰه ما شاء أفضلهم؛ فإن شكرنا زادنا مِن فضله، ويبتلي مَن يشاء في أعزهم؛ فإن صبر، أعطاه اللّٰه مِن العوض ما يُنسيه كل ما كابده في ما مضى.
تعليقات
إرسال تعليق