القائمة الرئيسية

الصفحات

 نص: جُنون

الكاتب: عمر سعيد

تصميم: ريم صالح


استيقظ قبل الفجر فزِعًا، خائقًا وقلبه ينبض وجعًا، ظَنّ بأن الحرب اشتعلَت والعدوّ اقتحم البلاد وهدم الديار ورصف الشوارع بجثث العباد. نظر من النافذة فوجد الشوارع كما هي .. مُظلمة وكئيبة، تُشاركه وحدته. بالأمس كان طريح الفراش مريضًا, قضى ليلته يهذي، رأى ما يرى المسحور أو المخمور، روحه مُثقَلة بالهموم، لم يعد يتحمّل أكثر .. فقرّر أن ينفَجر. 

خرج من المدينة هاربًا من الصخب والكذب، مهرولًا نحو الشاطئ المهجور، يُسابق الريح والطيور، مذعورًا كأن وحوش العالم تُطارده، كأن جنود الطاغية تُلاحقه لِتَعدمه، أخفىَ الألم في جيبه ودفن الأمل في قلبه وانطلق كالرصاصة، غير مكترثٍ بالطائرات أو السيارات أو إشارات المرور أو صافرات الإنذار أو حتى بنادق القنّاصة.


وعندما وصل إلى الشاطئ وجدها هُناك، رآها، واقفة في شموخ أفروديت، صامتة كأميرة في موكب، يتدفّق الموج من ثنايا ثوبها الأزرق، تخرج الفراشات أفواجًا من خصلاتِها المُتطايرة كألسنة لهب، تُطلق من عينيها نظرات نحو السُحُب، تخترق الغيوم، تُذيب الظلام وتجذب الشمس.

اندفع نحوها وهو يصرُخ: المدينة تدور في المتاهة، ينتشر الجنون ويخرج الصعاليك من الجُحور، في الصباح تُسقى الأزهار بالدم وتُرَشّ الشوارع بالكراهية والحقد، الواعظ يمتطي شيطانًا ويطوف في الأرجاء، يَسرِق ويَسكَر ثم يُحذّر الناس من غضب السماء، والناس يخشون النهار كأنهم مسوخ، تَئِنّ الأشجار في الليل، تهمس بأسماء مَن حفروا أسماءهم على لحائها، تحكي قصصهم وتبكي فراقهم، العُشّاق والأبطال والثوّار، مرّوا من هنا .. ماتوا هُنا، تنتحب الأغصان وتتساقط الأوراق حُزنًا وأسى، لا نوافذ تواسي ولا أقلام ترثي, ذكراهم نُسيَت .. حتى الذاكرة احترقَت.


لم تردّ عليه الحسناء, اختفَت، وككل شيءٍ جميلٍ .. رحلَت، بنى اليائس بيتًا مِن الرمال، قصرًا من النسيان، شرب من البحر حتى ارتوى، صعد إلى قمّة جبل الحلم .. ثم هوى، حفر لنغسه خندقًا أسفل البحر، تلفّح برداءٍ مصنوع من الأصداف، وقبل أن يرحل نقش على الرمل كلمات مُغلّفة بالتوسّل والرجاء، ترك أحلامه الضئيلة .. كتب وصيّته الأخيرة:

" سيدتي، خُذيني على محمل الجدّ ولا تستخفّي بي، اجعليني مطرًا يتساقط كل يومٍ في مكان، أو كوني رفيقَتي وانهي وِحدَتي

واشفيني مِن الهذيان"


عمر سعيد|همج لطيف

تعليقات

التنقل السريع